سورة التوبة - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} قال الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة: شبانا وشيوخا. وعن ابن عباس: نشاطا وغير نشاط. وقال عطية العوفي: ركبانا ومشاة. وقال أبو صالح: خفافا من المال، أي فقراء، وثقالا أي: أغنياء. وقال ابن زيد: الثقيل الذي له الضيعة، فهو ثقيل يكره أن يدع ضيعته، والخفيف الذي لا ضيعة له. ويروى عن ابن عباس قال: خفافا أهل الميسرة من المال، وثقالا أهل العسرة. وقيل: خفافا من السلاح، أي: مقلين منه، وثقالا أي: مستكثرين منه. وقال الحكم بن عتيبة: مشاغيل وغير مشاغيل. وقال مرة الهمذاني: أصحاء ومرضى. وقال يمان بن رباب: عزابا ومتأهلين. وقيل: خفافا من حاشيتكم وأتباعكم، وثقالا مستكثرين بهم. وقيل: خفافا مسرعين خارجين ساعة سماع النفير، وثقالا بعد التروي فيه والاستعداد له.
{وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل صاحب ضر، فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثَّرت السواد وحفظت المتاع.
وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس: نُسخت هذه الآية بقوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}.
وقال السدي: لما نزلت هذه الآية اشتد شأنها على الناس فنسخها الله تعالى وأنزل: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى} الآية.
ثم نزل في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك:


{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} واسم كان مضمر، أي: لو كان ما تدعونهم إليه عرضا قريبا، أي: غنيمة قريبة المتناول، {وَسَفَرًا قَاصِدًا} أي قريبا هينا، {لاتَّبَعُوك} لخرجوا معك، {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} أي: المسافة، والشقة: السفر البعيد، لأنه يشق على الإنسان. وقيل: الشقة الغاية التي يقصدونها، {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} يعني باليمين الكاذبة، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في أيمانهم وإيمانهم، لأنهم كانوا مستطيعين.
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} قال عمرو بن ميمون: اثنان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين، وأخذه الفدية من أسارى بدر، فعاتبه الله كما تسمعون.
قال سفيان بن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل أن يعيره بالذنب.
وقيل: إن الله عز وجل وقَّره ورفع محله بافتتاح الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده: عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي؟ ورضي الله عنك ألا زرتني. وقيل معناه: أدام الله لك العفو.
{لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} أي: في التخلف عنك {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} في أعذارهم، {وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} فيها، أي: تعلم من لا عذر له. قال ابن عباس رضي الله عنه: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين يومئذ.
{لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} أي: لا يستأذنك في التخلف، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}.
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} أي شكت ونافقت، {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} متحيرين.
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} إلى الغزو، {لأعَدُّوا لَهُ} أي: لهيؤوا له {عُدَّةً} أهبة وقوة من السلاح والكراع، {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} خروجهم، {فَثَبَّطَهُمْ} منعهم وحبسهم عن الخروج، {وَقِيلَ اقْعُدُوا} في بيوتكم، {مَعَ الْقَاعِدِينَ} يعني: مع المرضى والزَّمْنى. وقيل: مع النسوان والصبيان. قوله عز وجل: {وَقِيلَ} أي: قال بعضهم لبعض: اقعدوا. وقيل: أوحى إلى قلوبهم وألهموا أسباب الخذلان.


{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالجهاد لغزوة تبوك، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي على ذي جدة أسفل من ثنية الوداع، ولم يكن بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، فأنزل الله تعالى يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم {لَوْ خَرَجُوا} يعني المنافقين {فيكم} أي معكم، {مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} أي: فسادا وشرا. ومعنى الفساد: إيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين بتهويل الأمر، {وَلأوْضَعُوا} أسرعوا، {خِلالَكُم} وسطكم بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة ونقل الحديث من البعض إلى البعض. وقيل: {وَلأوْضَعُوا خِلالَكُم} أي: أسرعوا فيما يخلّ بكم. {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي: يطلبون لكم ما تفتنون به، يقولون: لقد جُمع لكم كذا وكذا، وإنكم مهزومون وسيظهر عليكم عدوكم ونحو ذلك. وقال الكلبي: يبغونكم الفتنة يعني: الْعَيْبَ والشرَّ. وقال الضحاك: الفتنة الشرك، ويقال: بغيته الشر والخير أبغيه بُغَاءً إذا الْتَمَسْتُه له، يعني: بغيت له.
{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} قال مجاهد: معناه وفيكم محبون لهم يؤدون إليهم ما يسمعون منكم، وهم الجواسيس. وقال قتادة: معناه وفيكم مطيعون لهم، أي: يسمعون كلامهم ويطيعونهم. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} أي: طلبوا صدَّ أصحابك عن الدين وردَّهم إلى الكفر، وتخذيل الناس عنك قبل هذا اليوم، كفعل عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه. {وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ} وأجالوا فيك وفي إبطال دينك الرأي، بالتخذيل عنك وتشتيت أمرك، {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ} النصر والظفر، {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} دين الله، {وَهُمْ كَارِهُونَ}.
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} نزلت في جَدِّ بن قَيْسٍ المنافق، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز لغزوة تبوك قال: يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر؟ يعني الروم، تتخذ منهم سراري ووصفاء، فقال جد: يا رسول الله لقد عرف قومي أني رجل مغرم بالنساء، وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر عنهن، ائْذَنْ لي في القعود ولا تفتني بهن وأعينُك بمالي. قال ابن عباس: اعتلَّ جد بن قيس ولم تكن له علة إلا النفاق، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أذنت لك فأنزل الله عز وجل: {ومنهم} يعني من المنافقين {مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} في التخلف {وَلا تَفْتِنِّي} ببنات الأصفر. قال قتادة: ولا تؤثمني: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي: في الشرك والإثم وقعوا بنفاقهم وخلافهم أمْرَ الله وأمر رسوله، {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} مطبقة بهم وجامعة لهم فيها.
{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} نصرة وغنيمة، {تسؤهم} تُحزنُهم، يعني: المنافقين، {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} قتل وهزيمة، {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} حَذَرَنا، أي: أخذنا بالحزم في القعود عن الغزو، {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل هذه المصيبة، {وَيَتَوَلَّوْا} ويدبروا {وَهُمْ فَرِحُونَ} مسرورون بما نالك من المصيبة.
{قُلْ} لهم يا محمد {لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} أي: علينا في اللوح المحفوظ {هُوَ مَوْلانَا} ناصرنا وحافظنا. وقال الكلبي: هو أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} تنتظرون بنا أيها المنافقون، {إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} إما النصر والغنيمة أو الشهادة والمغفرة. وروينا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يُخْرِجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلمته: أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة».
قوله عز وجل: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} إحدى السوءتين إما: {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} فيهلككم كما أهلك الأمم الخالية، {أَوْ بِأَيْدِينَا} أي: بأيدي المؤمنين إن أظهرتم ما في قلوبكم، {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} قال الحسن: فتربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعيد الله من إظهار دينه واستئصال مَنْ خالفه.
{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أمر بمعنى الشرط والجزاء، أي: إن أنفقتم طوعا أو كرها. نزلت في جد بن قيس حين استأذن في القعود، قال أعينكم بمالي، يقول: إن أنفقتم طوعا أو كرها {لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ} أي: لأنكم، {كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ}.
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ} قرأ حمزة والكسائي: {يقبل} بالياء لتقدم الفعل، وقرأ الباقون بالتاء لأن الفعل مسند إلى جمع مؤنث وهو النفقات، فأنث الفعل ليعلم أن الفاعل مؤنث، {نَفَقَاتُهُمْ} صدقاتهم، {إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِه} أي: المانع من قبول نفقاتهم كفرهم، {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى} متثاقلون لأنهم لا يرجون على أدائها ثوابا، ولا يخافون على تركها عقابا، فإن قيل: كيف ذم الكسل في الصلاة ولا صلاة لهم أصلا؟ قيل: الذم واقع على الكفر الذي يبعث على الكسل، فإن الكفر مكسل، والإيمان منشط، {وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ} لأنهم يعدونها مغرما ومنعها مغنما.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12